
مع التطور المتسارع للتقنيات الحديثة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على المهام الحسابية أو تحليل البيانات،
بل تجاوز ذلك إلى ميادين حساسة مثل الفتوى الشرعية والإجابة عن أسئلة الناس الدينية.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يجوز شرعًا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الفتوى؟ وما هي الضوابط والمخاطر المحتملة؟
أولًا: مفهوم الفتوى ومكانتها
الفتوى في الإسلام ليست مجرد رأي عابر، بل هي بيان للحكم الشرعي في مسألة معينة،
مبني على القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والقياس وأصول الاستنباط.
وقد حمّل الله العلماء مسؤولية عظيمة في هذا الباب، فقال تعالى:
"فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" [النحل: 43].
وبناءً على هذا، فإن الفتوى تتطلب علمًا راسخًا، وفهمًا للسياق، وقدرة على الترجيح،
إضافةً إلى التقوى والورع، وهي أمور لا تتوافر بالضرورة في الخوارزميات.
ثانيًا: دور الذكاء الاصطناعي في المجال الديني
لا شك أن الذكاء الاصطناعي يمتلك قدرة هائلة على تخزين المعلومات، تصنيفها،
واسترجاعها بسرعة فائقة. وهذا يجعله مفيدًا في:
-أرشفة آلاف الفتاوى السابقة وتصنيفها.
-توفير إجابات سريعة بالاعتماد على قواعد بيانات موثوقة.
-مساعدة الباحثين والطلاب على الوصول إلى المصادر.
لكن الفرق الجوهري أن الذكاء الاصطناعي لا يميز بين الصواب والخطأ بذاته،
بل يعتمد على ما تمت برمجته عليه وما زُوّد به من بيانات.
ثالثًا: الإشكالات الشرعية
العلماء والباحثون يحذرون من عدة إشكالات في جعل الذكاء الاصطناعي مصدرًا للفتوى، أبرزها:
1.غياب الاجتهاد الحقيقي:
الفتوى ليست نقلًا حرفيًا، بل تحتاج إلى اجتهاد ونظر في المقاصد الشرعية، والذكاء الاصطناعي عاجز عن ذلك.
2.الخطأ في التفسير:
الذكاء الاصطناعي قد يخلط بين المذاهب أو يربط بين مسائل لا علاقة لها ببعضها.
3.المسؤولية الشرعية:
إذا أصدر الذكاء الاصطناعي فتوى خاطئة أدت إلى معصية أو ضرر،
فمن يتحمل المسؤولية؟ المبرمج؟ المستخدم؟ أم الآلة نفسها؟
4.غياب البعد الروحي والأخلاقي:
الفتوى ليست "معلومة جامدة"، بل هي توجيه روحي يحتاج إلى حكمة وورع لا يمكن برمجتها.
رابعًا: آراء العلماء والهيئات
بعض العلماء يرون أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة مساعدة، مثل المكتبة أو الفهرس،
لكن لا يجوز أن يُعتمد عليه وحده في إصدار الفتوى.
المجامع الفقهية تميل إلى التحذير من الاعتماد الكلي عليه،
معتبرة أن الفتوى وظيفة شرعية لا يقوم بها إلا أهل الاختصاص.
هناك أصوات أخرى تقول: يمكن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الفتوى المبدئية (الفتوى العامة)
مثل أحكام الطهارة أو الصلاة، لكن مع ضرورة مراجعة عالم بشري في القضايا الدقيقة أو المستجدات.
خامسًا: الموقف المتوازن
الجواب الشرعي يمكن تلخيصه في الآتي:
يجوز الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في الفتوى من باب التسهيل في الوصول إلى المعلومة أو جمع الأقوال.
لا يجوز الاعتماد عليه استقلالًا، لأنه لا يمتلك ملكة الاجتهاد ولا يُسأل أمام الله عن خطئه.
الأصل أن تكون الفتوى من العلماء الراسخين، وما عدا ذلك فهو مجرد وسيلة تقنية.
إذن، تشغيل الذكاء الاصطناعي في الفتوى مباح إذا كان وسيلة مساعدة، لكنه غير جائز
أن يحل محل المفتي البشري. فالفتوى ليست نصوصًا مكدسة، بل هي أمانة دينية ومسؤولية شرعية
تحتاج إلى علم وتقوى. وعليه، يبقى الذكاء الاصطناعي مجرد أداة قوية في خدمة العلماء، لا بديلًا عنهم.
