أغلى المهور وأكرمها عند الله لمن هداه الله:
جاء أبو طلحة -رضي الله عنه- قبل إسلامه ليخطب أمَّ سليم رضي الله عنها (وتكنى الرميصاء أو الغميصاء) بعد وفاة زوجها، وكان أملُه كبيرًا في أن تقبله زوجًا لها؛ لِمَا كان بينهما مِن روابط القُربى، فكلاهما كان من بني النجار، ولكنَّها رفضَت حتى يكبر ابنُها ويشتدَّ عُوده.
فلما كبر ابنُها ووجدَت منه ما تتمنَّاه من تأدية واجبها نحو ابنها، قبلَت أن تنظر في أمر زواجها مرَّة أخرى، لا سيما عندما تقدَّم لها أبو طلحة للمرَّة الثانية، وأبو طلحة كان من أشراف يثرب، ومع ذلك لم يدْفعها الترمُّل إلى قبول هذا الزواج دون تفكير، فوجئ أبو طلحة بأن أمَّ سليم ترفض الزواج منه مرة أخرى، وأراد أن يَعرف السببَ الجديد في الرفض؛ فقالت: "إنه لا ينبغي لي أن أتزوَّج مُشرِكًا، أما تعْلم يا أبا طلحة أنَّ آلهتَكم التي تعبدون ينحتها عبد آل فلان النَّجَّار، وأنكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقَت؟! قال: فانصرَفَ عنها وقد وقع في قلبه من ذلك موقعًا، قال: وجعَلَ لا يجيئها يومًا إلَّا قالت له ذلك، قال: فأتاها يومًا فقال: الذي عرضتِ عليَّ قد قبلتُ، قال: فما كان لها مَهرٌ إلا إسلام أبي طلحة".
وقد عاوَدَها أبو طلحة أكثرَ مِن مرَّة قبْل إسلامه وقبولِها الزواجَ منه، وقد قالت له أيضًا: "يا أبا طلحة، إنَّ إلهكَ الذي تَعبد إنما هو شجرةٌ ينبتُ من الأرض، وإنما نجَرَها حبشيُّ بني فلان، فلما قال لها: بلى. قالت: أما تَستَحي أن تسجد لخشبة تنبتُ من الأرض نجَرَها حبشيُّ بني فلان، فهل لك أن تَشهَد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأزوِّجك نفسي، فقالت له: "إن مثلك يا أبا طلحة لا يُرَدُّ، لكنني لن أتزوجك وأنت رجل كافر" فظن أبو طلحة أن أم سليم تتعلل عليه بذلك، وأنها قد آثرت عليه رجلاً آخر أكثر منه مالاً أو أعز ونفراً، فقدْ أساء ظنًّا حين اعتقد أنّ خاطبًا أغنى منه قد سبقه إلى أم سليم، فتعللت بموضوع الكفر كي تنسحب منه، وتتزوج ذلك الأغنى. فقال: "والله، ما هذا الذي يمنعك مني يا أم سليم قالت ما الذي يمنعني إذاً؟ قال: الأصفر والأبيض، الذهب والفضة، هذا سوء ظن محض. قالت: الذهب والفضة !! قال: نعم. قالت: بل إني أشهدك يا أبا طلحة، وأشهد الله ورسوله أنك إن أسلمتَ رضيتُ بك زوجاً من غير ذهب ولا فضة، وجعلتُ إسلامك لي مهراً.. فما دمتَ تقول: إنني آثرتُ عليك رجلاً أغنى منك، فأنا أشهِد الله، وأشهِدك أنك إذا أسلمتَ فلن آخذ منك شيئًا، مهري هو إسلامك." وما إن سمع أبو طلحة كلام أم سُليم حتى صرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من نفيس الخشب وخص به نفسه كما يفعل السادة من قومه.. عنده صنم من خشب محفور مرتب هو إلهه ، لكن أم سليم أرادت أن تطرق الحديد وه و ما زال حامياً ، فقالت له: "ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض .. قال: بلى، قالت: أفلا تشعر بالخجل، وأنت تعبد جذع شجرة جعلت بعضه لك إلهاً، بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً به يصطلي، فأنت جعلته صنماً تعبده من دون الله، وغيرك جعله حطباً يصطلي به في الشتاء إنك إن أسلمت يا أبا طلحة رضيت بك زوجاً ولا أريد منك صداقاً غير الإسلام .قال لها: ومن لي بالإسلام ؟ قالت: أنا لك به، قال وكيف؟ قالت: تنطق بكلمة الحق، فتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله، ثم تمضي إلى بيتك، وتحطم صنمك، فانطلقتْ أسارير أبي طلحة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" .. ثم تزوج مِن أمّ سليم، فكان المسلمون يقولون: ما سمعنا بمهر قط كان أكرمَ من مهر أم سليم، فقد جعلت صداقها الإسلام.
فلما هداهُ الله إلى طريق الإيمان وأسلم قالت لابنها أنس: "يا أنس قُمْ فزوِّج أبا طلحة" وكان مَهْرها كما قال لها أهل المدينة: "ما سمعنا بامرأةٍ قطُّ كانت أَكرَم مهرًا من أمِّ سليم، إذ كان مهرها الإسلام."
زوج يعرض عن الإسلام فيكون ذلك سببا للفراق وآخر يقبل أن يسلم مهرا للرميصاء فيظفر بالزوجة الصالحة وبالهداية:
ولو تأمَّلنا موقفَ أمِّ سليم من أبي طلحة حتى دخل الإسلام، واسترجعنا سويًّا موقفَها مِن زوْجها الأوَّل مالكِ ابن النَّضر عندما دَعَتْه للإسلام، لرأينا أمامنا مثالًا يَقْفو أثَرَه النساءُ الصالحات، ولَشَغَفَ قلوبَنا هذه العقيدةُ الشامخةُ التي إنِ استقرَّت في القلب، هان معها كلُّ شيء حتى الدنيا وزينتها وشهواتها وأموالها.
فما أنْ تفتَّح قلبُ أمِّ سليم لأشعَّة الهداية حتى قامت بدعوة زوجها مالكٍ إلى الإسلام؛ لِينهلَ معها من هذا المنْهل العذْب الطاهر، وحتى يذوق حلاوة الإيمان، ويتبدَّل قلبُه الأسودُ المشبع برياح الجاهلية المنْتنة، بقلبٍ أبيض مشبع بالإيمان ووحدانيةِ الله.
لكن مالك بن النَّضر قد طُمس على قلبه، وتمكَّنت الجاهليَّة منه، حتى كان يَدعو أمَّ سليم للرجوع عن إسلامها، والعودةِ إلى دِين الآباء والأجداد مرَّة أخرى، ولكن هيهات هيهات فقد كَرهتْ أمُّ سليم أن تعُود إلى الكفر بعد الإيمان كما يَكْره المرءُ أن يُقذف بالنار.
وكانت الرميصاء أو الغميصاء تملِك مِن قوَّة الحُجَّة ما تُفحم به زوجَها، وكان في دعوتها مِن نُور الحقِّ ما يَفضَح باطلَهُ الواهيَ المتهافت.
وكان لمالكٍ صنمٌ مِن خشب يَعبُده من دون الله، فكانت تُحاجُّه في أمْره قائلةً: أتعبُد جذْع شجرة نبتت في الأرض التي تطؤها بقدميك، وترمي فيها فضلاتك؟! أتدعو من دون الله خشبةً نَجَرَها لكَ حبشيٌّ مِن صُنَّاع المدينة؟!
ولما ضاق الزوج - مالك بن النَّضر - ذرعُا بحُجَج زوجتِه الدَّامغة، غادَر المدينة، ومضَى هائمًا على وجهه، متَّجهًا نحو بلاد الشام، ثم إنه لم يلبث هناك قليلًا حتى مات على شِرْكِه.
قمة الصبر على البلاء والاحتساب لله:
ومما يروى سيدنا أنس بن مالك عن قوة إيمان الصحابية الجليلة الرميصاء -رضي الله عنها وعن زوجها- أنه اشتَكى أحد أبنائها من أبي طَلحَةَ الذي راحَ إلى المسجِدِ وتوفِّيَ الغُلامُ فهيَّأتْ أمُّ سُلَيمٍ أمرَ بيتِها ونشَرَت عشاءَها وقالَت لأهلِها لا يذكُرَنَّ أحدٌ منكُم لأبي طَلحَةَ وفاةَ ابنِهِ فرجَع أبو طلحَةَ ومعهُ أناسٌ من أصحابِهِ من أهلِ المسجِدِ فقالَ ما فعلَ الغُلامُ فقالَت أمُّ سُلَيمٍ خيرَ ما كانَ فقدَّمَت عشاءَه فتعشَّى وأصحابُهُ فلمَّا خرَجوا عنهُ قامَت إلى ما تَقومُ إليهِ المرأةُ فلمَّا كانَ مِن آخِرِ اللَّيلِ قالَت ألم ترَ يا أبا طَلحَةَ إلى آلِ فلانٍ استَعاروا عاريَةً فتَمتَّعوا بها فلمَّا طُلِبَت إليهِم شقَّ عليهِم قال ما أنصَفوا قالَت إن فلانًا لابنها كانَ عاريةً من اللهِ تعالى فقبضَه فاستَرجَعَ ثُمَّ غدا علَى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ باركَ الله لكُما في ليلتِكما فحمَلَت بعبدِ اللهِ فلَمَّا ولدَت ولدَت ليلًا فكرِهَت أن تحنِّكَهُ حتَّى يُحنِّكَهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال فغدوتُ بهِ وتمراتِ عجوَةٍ فأتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو يَهنَأُ أباعِرَ له ويَسِمُها فقلتُ يا رسولَ اللهِ ولدَت أمُّ سُلَيم الليلةَ فكرهتُ أن تُحنِّكَهُ حتَّى تحنِّكَهُ أنتَ قالَ معكَ شيءٌ قلتُ تمراتُ عجوَةٍ فأخذَ بعضَ ذلكَ التَّمرَ فمصَّهُ فجمَعَ بزاقَهُ فأوجَرَهُ إيَّاهُ فتلَمَّظَ الصَّبيُّ فقالَ حِبُّ الأنصارِ التَّمرُ قلتُ سّمِّهِ يا رسولَ اللهِ قال هوَ عبدُ اللهِ.
وروى سيدنا أنس القصة بصيغة أخرى وأضاف في آخرها بعد قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهمَّ بارِكْ لهما في ليلتِهما قال الرَّاوي: فلقد رأيتُ لهم بعد ذلك في المسجدِ سبعةً كلُّهم قد قرءوا القرآنَ.
الدروس والعظات التي نستخلصها من قصة هذه الصحابية الجليلة رضي الله عنها:
ومِن هذه الوقفة مع أمِّ سليم تتجلَّى لنا الدُّروس والفوائد التي تَستَدعي كلَّ غيُورةٍ على دِينِها أن تقفَ أمامها بتدبُّر وخشوع لِتَستَلهِم القُدوة الصَّالحة، ومِن هذه الدُّروس والفوائد:
- ثباتها على دِينها، وعدم إذعانها لزوجها الأول الذي لم يُسلم، وكان يدعوها أن تترُك دِينها وتعُود إلى دِين الآباء والأجداد مرَّة أخرى.
- لم تكُن الشهوةُ قائدًا لأمِّ سليم عندما تَقَدَّم لها أبو طلحة للزواج منها، وكان مِن أشراف يثرب، وهي امرأة مترمِّلة، ولكنَّ العقيدة والإيمان هما الأساسُ عندها، حتى لو ضحَّت بأَنْفَسِ شيءٍ في الدنيا ممَّا يَلهَث وراءه النساءُ؛ سواء كان الزواج، أو المال والدنيا.
- رجاحة عقْلها في دعوة زوجَيْها الأوَّلِ والثاني في الدُّخول في الإسلام، وترْكِ عبادة الأصنام.
- ثباتها على المبدأ الذي استقرَّ في قلبها، وتَمَكَّنَ منه، رغم مُعاوَدة أبي طلحة لها أكثر مِن مرَّة، وهي لم تَضْعُف ولم تَسْتَكِنْ، ولم تَقْبَل بغير الإسلام بديلًا.
- وفي الحديثِ: فَضْلُ أُمِّ سُلَيْمٍ رضِيَ اللهُ عنها، واتِّصافُها بالصَّبرِ على البَلاءِ، والرِّضا بالقَضاءِ، والتَّسليمِ لأَمْرِ اللهِ في الضَّرَّاءِ، مع الحِكمةِ في الإخبارِ بالمُصيبةِ. وفيه: فَضْلُ الصَّبْرِ، وعاقبتُهُ الحميدةُ، والتَّعويضُ العاجِلُ لكُلِّ مَن صَبَرَ عندَ الصَّدْمةِ الأُولى. أنَّ المرأةَ تتزيَّنُ لزَوْجِها للمعاشرة. ولم يكن أبو طلحة رضي الله عنهما بأقل تحملا وقبولا لقضاء الله منها فأين منا هاته السجية وهذا التحمل للبلاء في سبيل ديننا؟
- أين مَهْرُ أمِّ سليم مِن مهور النساء اليوم؟ وأين مهر الإيمان والصلاح مِن مَهْر الأثاث والمال والجاه والسُّلطانِ والحسب والنسب والتفاخر؟! وأين الإيمان والاحتساب عند الله لكل ما يذهب ويمضي ولو كان ابنا أو حفيدا أو مالا أو غيره؟