
بالله أستعين وأصلي وأسلم على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد الهادي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين ...
أما بعد أعزائي الأعضاء و زوار ومرتادي منتدانا :
في تاريخنا قصص مؤثرة فيها من العبر ما نحتاج إليه في أيامنا هاته التي قل فيها التقوى واضطربت أحوال المسلمين وتراجع الإيمان لديهم...وفي القصة التالية دروس وعظات رغم قساوتها أحيانا كما نقلت لنا كتب التاريخ والقصص الإسلامي فأدعوك لقراءتها والتمعن فيها والصبر على طولها فلن تندم:

صورة تخيلية لسعيد بن جبير ... والحجاج على فراش الموت
ولسعيد بن جبير موقف مؤثر دوّنه التاريخ مع الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يعد من الشخصيات الأكثر جدلا في تاريخ الاسلام نظرا لتأرجحه بين الظلم الشديد والإيمان الشديد، والذي لخص حاله الذهبي، فقال في السير: الحجاج أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلًا، وكان ظلومًا، جبارًا، ناصبيًا، خبيثًا، سفاكًا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام، ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن، قد سقت من سوء سيرته في تاريخي الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه، ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء.
والحكايات المروية عن ظلمه واستبداده وسفكه للدماء تكاد لا تحصى، يحكى أنه في يوم من الأيام جاؤوا بالعالم سعيد بن جبير للحجاج وكان الحجاج قد علم من خلال عيون بثها وأعوان له أن العالم موجود في مكة المكرمة، فأمر واليها وقتها خالد بن عبد الله القسري بالقبض عليه وإرساله إليه مع قائد من أهل الشام من خاصة الحجاج يسمى المتلمس بن الأحوص ومعه عشرون رجلا من أهل الشام ممن يثق بهم الملتمس لجلبه إليه وأثناء عودتهم به رأوا من كراماته وتقواه وورعه الكثير ما أثر في أنفسهم فندموا وقالوا له : قد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نحضرك إليه، فمرنا بما شئت. قال : امضوا لأمركم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه، فلما دخلوا على الحجاج الذي كان بانتظارهم...
قال الحجاج: أتيتموني بسعيد بن جبير؟
قالوا : نعم ، وعاينا منه العجب، فصرف الحجاج بوجهه عنهم،
فقال الحجاج : أدخلوه علي .
فخرج المتلمس فقال لسعيد : استودعتك الله وأقرأ عليك السلام فأدخل عليه،
فدخل فقال له الحجاج: ما اسمك؟
قال : سعيد بن جبير.
قال الحجاج : أنت الشقي بن كسير.
قال سعيد : بل كانت أمي أعلم باسمي منك.
قال الحجاج : شقيت أنت وشقيت أمك.
قال سعيد : الغيب يعلمه غيرك، فهل أطلعت على الغيب؟
قال الحجاج : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى.
قال سعيد : لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
قال الحجاج: لأقطعنك قطعا قطعا، ولأفرقن أعضاءك عضوا عضوا.
سعيد : إذا تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك.
قال الحجاج : فما قولك في محمد؟
قال سعيد : : نبي الرحمة إمام الهدى عليه الصلاة والسلام.
قال الحجاج : فما قولك في علي في الجنة هو أو في النار؟
قال سعيد : لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت من بها.
قال الحجاج : فما قولك في الخلفاء؟
قال سعيد : لست عليهم بوكيل.
قال الحجاج : فأيهم أعجب إليك؟
قال سعيد : أرضاهم لخالقي.
قال الحجاج : فأيهم أرضى للخالق؟
قال سعيد : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
قال الحجاج : أبيت أن تصدقني؟
قال سعيد : إني لم أحب أن أكذبك.
قال الحجاج : فما بالك لم تضحك؟
قال سعيد : وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار.
قال الحجاج : فما بالنا نضحك؟
قال سعيد : لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يدي سعيد بن جبير،
فقال له سعيد: إن كنت جمعت هذه لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكى، ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود ونفخ بالناي، بكى سعيد بن جبير،
فقال له الحجاج : ما يبكيك؟ أهو اللهو؟
قال سعيد : بل هو الحزن، أما النفخ فقد ذكرني يوما عظيما يوم نفخ في الصور، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها أمعاء الشاء يبعث بها معك يوم القيامة. فقال الحجاج : ويلك يا سعيد
فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.
قال الحجاج : اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك؟
قال سعيد : اختر لنفسك يا حجاج ، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.
قال الحجاج : أفتريد أن أعفو عنك؟
قال سعيد : إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر.
قال الحجاج : اذهبوا به فاقتلوه.
فلما خرج سعيد من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده،
قال الحجاج : ما أضحكك؟
قال سعيد : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عنك.
فأمر الحجاج بالنطع (بساطٌ من الجلد يُفرش تحت المحكوم عليه بالإعدام) فبسط، وقال : اقتلوه.
فقال سعيد: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين"
قال الحجاج : شدوا به لغير القبلة.
قال سعيد: "فأينما تولوا فثم وجه الله"
قال الحجاج : كبوه لوجهه (أي اجعلوا وجهه تجاه الأرض).
قال سعيد: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى"
قال الحجاج : اذبحوه.
قال سعيد: أما إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة.
ثم دعا سعيد الله فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمه الله بأمر الحجاج.
ويقال أن الحجاج عاش بعده خمس عشرة ليلة، ووقع الأكلة في بطنه، فدعا بالطبيب لينظر إليه فدعا بلحم منتن، فعلقه في خيط ثم أرسله في حلقه فتركه ساعة، ثم استخرجه وقد لزق به من الدم، فعلم أنه ليس بناج، وبلغنا أن الحجاج كان ينادي بقية حياته : "ما لي ولسعيد بن جبير؟ كلما أردت النوم أخذ برجلي؟"
وسلط الله تعالى عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها؛ وشكا ما يجده إلى الحسن البصري، فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسال الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديداً.
ولم يزل الحجاج بعد قتله سعيدا فزعا مرعوبا حتى مُنع من النوم وكان كلما نام رأى سعيدا آخذ بمجامع ثوبه يقول: “يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيستيقظ الحجاج مذعورا ويقول مالي ولابن جبير؟" ولم يزل متلبساً حتى هلك بعد خمسة عشر يوماً من قتله بن جبير، وتوفي في شهر رمضان، وقيل في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وعمره ثلاث، وقيل أربع وخمسون سنة، وهو الأصح.
وروى الدميري: إن عمر بن عبد العزيز رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة فقال له: ما فعل الله بك ؟ قال قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير فإنه قتلني به سبعين قتلة. ويعلل الدميري سبب ذلك: إن سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته ثم ينقل عن الحسن البصري قوله: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه، ثم يقول الدميري : فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله، وقيل إن الذي أفزع الحجاج عندما رأى مقتل سعيد سيلان الدم الكثير الذي لم يرَ بقدره عند من قتلهم قبله مما جعله يستدعي الأطباء ويسألهم عن ذلك فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع للنفس ومن كنت تقتله قبله كانت نفسه تذهب من الخوف لذلك قلّ دمه،
و نقل عن الأصمعي أنه قال لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:
رَبِّ قَدْ حَلَفَ الْأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا ........ بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ سَاكِنِي النَّار
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ وَيْحَهُمُ؟! ...... مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ غَفَّار
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ وَيْحَهُمُ؟! ...... مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ غَفَّار
فأخبر بذلك الحسن البصري فقال تالله إن نجا فبهما (يعني بيتي الشعر).
وعن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: ما حسدتُ الحجّاج عدو الله على شيء حسدي إيّاه على حُبهِ القرآن وإعطائه أهله وقوله حين حضرته الوفاة: "اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل"
ويقول الأصمعي: ما كان أعجبَ الحجّاج، ما ترك إلا ثلاثمائة درهم! ومصحفا، وسيفا، وسرجا، ورحلا، ومائة درع موقوفة للجهاد.

دعواتكم لي بظهر الغيب تكفيني أيها الأحبة.