


أما بعد أعزائي الأعضاء ومرتادي منتدانا وزوارنا الأكارم :
أسرد عليكم هذه المرة قصة الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي تصرف تصرفا يعد من الكفر
ولكنه لم يكفر لاعتبارات وموانع عديدة سنأتي على ذكرها إن شاء الله... إليكم القصة
عن علي رضي الله عنه قال: بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَا والزُّبَيْرَ، والمِقْدَادَ بنَ الأسْوَدِ، قَالَ: انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فإنَّ بهَا ظَعِينَةً، ومعهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ منها، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بنَا خَيْلُنَا حتَّى انْتَهَيْنَا إلى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: ما مَعِي مِن كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فأخْرَجَتْهُ مِن عِقَاصِهَا، فأتَيْنَا به رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَإِذَا فيه مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ ببَعْضِ أمْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا حَاطِبُ ما هذا؟، قَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، لا تَعْجَلْ عَلَيَّ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ، ولَمْ أكُنْ مِن أنْفُسِهَا، وكانَ مَن معكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لهمْ قَرَابَاتٌ بمَكَّةَ يَحْمُونَ بهَا أهْلِيهِمْ وأَمْوَالَهُمْ، فأحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذلكَ مِنَ النَّسَبِ فيهم، أنْ أتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بهَا قَرَابَتِي، وما فَعَلْتُ كُفْرًا ولَا ارْتِدَادًا، ولَا رِضًا بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلَامِ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لقَدْ صَدَقَكُمْ، قَالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هذا المُنَافِقِ، قَالَ: إنَّه قدْ شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَكونَ قَدِ اطَّلَعَ علَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
شرح الحديث
قبيل غزوة الفتح في السنة الثامنة وقعت هذه القصة بالمدينة، حيث أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة الثلاثة إلى روضة، اسمها خاخ، وأخبرهم أنهم سيجدون فيها امرأة، وأمرهم أن يأخذوا الكتاب (الرسالة) الذي معها، فبادروا إلى السمع والطاعة وتنفيذ أمر رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلما أنكرت المرأة هددوها بالتفتيش حتى لو اضطروا إلى تعرية جسدها، لأنهم يعلمون من قوة إيمانهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكذب ولا يقول إلا صدقا "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"، فأخرجته فأخذوه دون أن يفتحوه، فلما أحضروا الكتاب للنبي صل الله عليه وسلم فتحه، فإذا به رسالة من الصحابي حاطب رضي الله عنه أرسله معها إلى كفار قريش، يحذرهم من إقبال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم فاتحًا مكة، ليأخذوا أهبتهم، فلم يبادر النبي عليه الصلاة والسلام بإطلاق الحكم على حاطب، بل سأله: (يا حاطب ما هذا؟)، وهذا هدي نبوي مع كل مخطئ، أن يُبدأ أولًا بسؤاله، ويُستمع له، لعل عنده عذرًا، فذكر حاطب عذره أنه لم يفعل ذلك كفرًا، ولكن لم يكن له في مكة عشيرة يحمون عائلته الموجودة في مكة، فأراد أن يقدم شيئًا لهم ليحموا عائلته، فأراد عمر أن يقتله؛ لأن هذا الفعل نفاق، فرد النبي عليه الصلاة والسلام بأن له سابقة تشفع له، وهي شهود بدر، وهذا يدل على عدم نفاقه، وأن شهود بدر مكفر لما وقع منه، ونزل في ذلك مطلع سورة الممتحنة.
أما أن الذي فعله حاطب هو من الكفر والنفاق الأكبر فهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه أمام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: "يا رسول الله قد خان اللهَ ورسوله والمؤمنين، دعني أضرب عنقَ هذا المنافق - وفي رواية - فإنه قد كفر، إنه قد نافق، نكث وظاهر أعداءك عليك!"
بعض أهل العلم قال: كان هذا في السنة السادسة في عمرة النبي ﷺ التي صُد عنها عام الحُديبية، وبعضهم يقول: كان ذلك في السنة الثامنة في فتح مكة، حيث عمّ النبي ﷺ الخبر، وأطلع نفراً من أصحابه، فحاطب كتب إلى هؤلاء المشركين يُخبرهم بسر رسول الله ﷺ، وهو سر عسكري حربي يتعلق بجيش النبي ﷺ وأصحابه.
فقال النبي ﷺ: يا حاطب ما هذا؟، هذا في المقاييس والمعايير الدولية إلى يومنا هذا يُعد من الخيانة العُظمى، يسمونه الخيانة العُظمى، يعني: إفشاء الخُطط العسكرية، للعدو، فقال النبي ﷺ: يا حاطب ما هذا؟، قال: "لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأً مُلصقاً في قُريش"، يعني: كان حليفاً لهم ولم يكن من نفس قريش، كان من أهل اليمن، "وكان ممن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم -في قريش- أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً، ولا ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي : صدق، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك لعل الله اطلععلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[1]، فأنزل الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ" [الممتحنة:1]، لاحظ الآن هذا الحديث المشهور حديث حاطب رضي الله عنه، الفعل الذي صدر من حاطب ما توصيفه في الشرع؟ هو موالاة للمشركين وموادة لهم، وهو بالاتفاق سبب نزول هذه الآية من سورة الممتحنة التي تدور حول موضوع واحد، وهو موضوع الولاء والبراء، وصدرها هو هذا الذي نزل بسبب قصة حاطب، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" [الممتحنة:1]، لاحظ صُدرت بخطاب المؤمنين، وحاطب رضي الله عنه منهم، وفعله هذا نزلت الآية بعده، ففعله لم يُخرجه من الإيمان،وحاطب رضي الله عنه هو سبب النزول، إذاً هو داخل في هذا، هذا بالإضافة أنه هو سبب النزول، قال: "لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ" [الممتحنة:1]، نزلت بسبب هذا الخطاب، إذاً هذا الفعل من الموالاة، فجاء هذا الإنكار، "أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ" [الممتحنة:1]، فهذا الذي حصل هو موادة لأعداء الله تعالى، هذا القدر ينبغي أن يكون واضحاً لا يُجادل فيه أحد، هذا الفعل موالاة بنص الآية وسبب النزول، وهو موادة للمشركين، والآية ناطقة بهذا، فلفظ الآية لم يُخرجهم من مسمى الإيمان "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" [الممتحنة:1]، وهو سبب النزول، ثم أيضاً النبي ﷺ لم يحكم بكفره، فلما اعتذر إليه بهذا العذر قال: "صدق"، ثم قال النبي ﷺ لعمر رضي الله عنه لما استأذنه بقتله وحكم عليه بالنفاق قال بأن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ما المانع الذي منع من كفره بهذا الفعل الذي هو الموالاة؟، هل هو شهود حاطب رضي الله عنه بدراً؟
فالذي فعله يمكن أن يرقى إلى درجة الكفر والخروج من الإسلام، أو أنه يضر في إيمانه، ولم يكن يقصد به الغش والغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك نجده يجيب - من فوره - لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي حمله على كتابة الرسالة إلى كفار قريش: "يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفراً ولا ارتداداً، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام - وفي رواية - ما غيرت ولا بدلت، أما أني لم أفعله غشاً يا رسول الله ولا نفاقاً، ما كفرتُ ولا ازددتُ للإسلام إلا حباً!"
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد صدقكم، لا تقولوا له إلا خيراً، إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم!
وفي صحيح مسلم: "إني لأرجو أن لا يدخل النار أحد -إن شاء الله- ممن شهد بدراً والحديبية".
وحاطب قد جمع بين الخيرين، فقد شهد بدراً والحديبية معاً!
ولأن مراعاة سلامة الباطن في هذا الجانب هو لصالح الإنسان المخطئ بخلاف جانب المؤاخذة والمحاسبة ففيه تقريع وتعذيب للمخالف، لذا لم يمضه النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببينة ظاهرة تستدعي ذلك، والدليل على ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم من حاطب، و في موقف آخر وقع مثل ذلك لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير بأن يسقي أرضه، ثم يرسل الماء إلى أرض جاره الأنصاري! فقال الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري -: (أراك تحابي ابن عمتك!!).
فقول الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم "أراك تحابي ابن عمتك!"؛ هو كفر أكبر لأنه طعن بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على إقالة عثرته علمه صلى الله عليه وسلم بسلامة قصده وباطنه، وأن الذي صدر منه هو عبارة عن فلتة وزلة، وهذه ليست لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر في الفتح [8/503]: (وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولاً أن لا ضرر فيه) اهـ.
هل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيل عثرات ترقى إلى درجة الكفر بناءً على سلامة قصد وباطن أصحابها؟
الجواب أبدا، لانقطاع الوحي، وهذا الذي يقصده عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: "إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيراً أمَّناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يُحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة".
من فوائد الحديث
- أن النبي صلى الله عليه وسلم يُطلعه الله على ما شاء من الغيب، كما في هذه القصة، وهذا من دلائل النبوة.
- سرعة امتثال الصحابة رضي الله عنهم للأمر النبوي، فقد انطلقوا مباشرة لما أُمروا، كما أنهم لم يسألوا عن السبب والحكمة، وهذه فائدة أخرى.
- إيمان الصحابة الجازم بما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر في خطابهم لهذه المرأة.
- قوله: (ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر) وقول عمر: (هذا المنافق) يدل على أن هذا الفعل كفرٌ، لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يكفر لوجود المانع في حقه من الكفر فليس كل من ثبت وقوعه في الكفر يجوز تكفيره.
- الرد على الذين يفرحون بأخطاء الناس، ويسارعون إلى الحكم الخاطيء عليهم ، قبل التواصل معهم وسؤالهم ونصحهم.
- وإن مما ابتليت به الأمة في الأزمان المتأخرة تصدي بعض الجهلة لإطلاق الأحكام على الناس ورميهم بالبدعة والانحراف واتهام النيات التي استأثر الله بعلمها فماذا سيقولون لله يوم القيامة إذا سألهم: على أي شيء استندتم في اتهام نية أخيكم المسلم أنه أراد بكلامه ما فهمتم من فهم سيء.
- وإنه لمن المؤسف أن يعتذر هؤلاء المسيئون للظن في إخوانهم المسلمين من العلماء والدعاة والمصلحين من المؤسف أن يعتذروا بأنهم أرادو الاصلاح أو تحذير الناس من أخطاء هؤلاء المحذر منهم، وإنه لمن العقل والحكمة والدين أن يرجع هؤلاء عن اتهامهم لغيرهم بغير برهان، وأن يتقوا الله في أعراض المسلمين قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم. علمًا بأن سوء الظن وحمل الكلام على أسوأ الاحتمالات إنما هو دليل على سوء طوية الظان وفساد قلبه وقد قيل إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وأستغفر الله لي ولكم...
