


أما بعد أعزائي الأعضاء ومرتادي منتدانا وزوارنا الأكارم :
كانت للنبي ﷺ مواقف كثيرة كلها تسامح وعفو عن مقدرة جعلت منه شخصية استثنائية في هذا المجال، وفي لقاء بين حبر اليهود زيد بن سعنة قبل إسلامه -رضي الله عنه- اختبر رسول الله ﷺ بطريقة أغضبت الصحابة وعلى رأسهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن تتكشف شخصيته ﷺ وحلمه فيسلم الصحابي زيد بن سعنة ويشرح لماذا تصرف بتلك الطريقة الفظة مع نبي الله ﷺ نبي الرحمة وحسن الخلق الذي زكاه ربه بقوله:"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" والذي قال أيضا: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"... وصدق سيدنا حسان بن ثابت (شاعر الرسول) رضي الله عنه حين قال واصفا النبي محمد ﷺ:
وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني *** وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ ****** كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
ولكن هل هذه القصة التي طالما رددها الكثيرون صحيحة ؟
مقبرة البقيع وفي أعلى الصورة القبة الخضراء والمسجد النبوي الشريف على صاحبه أزكى الصلاة والسلام
روى الطبراني من حديث من عبد الله بن سلام قال: إن الله عز وجل لما أراد هدي زيد بن سعنة، قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فكنت ألطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه على من جهلهمقبرة البقيع وفي أعلى الصورة القبة الخضراء والمسجد النبوي الشريف على صاحبه أزكى الصلاة والسلام
قال زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلة كالبدوي فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت. فنظر إلى رجل إلى جانبه أراه علياً – فقال: يا رسول الله، ما بقي منه شيء.
قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا؟ قال:” لا يا يهودي ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل معلوم إلى كذا وكذا ولا تسمي حائط بني فلان”. قلت: نعم. فبايعني، فأطلقت همياني (أي فتحت كيس النقود) فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطا الرجل وقال: “اغد عليهم وأغثهم بها“.
قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاث، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟ فو الله ما علمتم بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان بمخالطتكم علم.
ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده، لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلي في سكون وتؤدة، فقال:” يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه، اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكان ما رعته”.
قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك.
قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا من أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت، وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد اختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم؟ قلت: أو على بعضهم.
فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة، ثم توفي رضي الله عنه في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رحم الله زيداً.
رواه الحديث ابن ماجه وابن حبان والطبراني.
*******************************
التعقيب على القصة وصحتها
*******************************
*******************************
التعقيب على القصة وصحتها
*******************************
هذه القصة المذكورة والمشهورة عند عامة الناس تضاربت حولها الآراء كما سنرى والمرجح هو ضعفها، وهي جزء من حديث طويل، حول قصة إسلام زَيْدِ بْنِ سَعْنَة رضي الله عنه.
وقد رواه ابن حبان في صحيحه (1/521)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5/222)، والحاكم في "المستدرك" (3/604)، وغيرهم بأسانيدهم، عن محمد بن المتوكل وهو ابن أبي السري، قال: "حدثنا الوليد بن مسلم قال: "حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: قال عبد الله بن سَلام..." (وذكر القصة).
وهذا إسناد ضعيف:
فمحمد بن المتوكل وهو ابن أبي السري: هذا الراوي قال عنه أهل العلم: "إنه مع صدقه عنده أوهام كثيرة."
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "محمد ابن المتوكل ابن عبد الرحمن الهاشمي، مولاهم، العسقلاني، المعروف بابن أبي السَّرِي، "صدوق عارف له أوهام كثيرة" انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 504).
لكن وهمه في هذه الراوية مستبعد لأن هناك من الرواة من وافقه في روايته هذه عن الوليد بن مسلم .
فقد رواه أيضا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي عن الوليد بن مسلم، كما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (5/222) وغيره.
وعبد الوهاب بن نجدة الحوطي ثقة في روايته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "عبد الوهاب ابن نَجْدة الحَوْطي أبو محمد ثقة" انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 368).
- الوليد بن مسلم : "وهذا الراوي مع الثقة بحديثه إلا أنه كان مدلّسا."
وحديث المدلس لا يقبل حتى يصرّح بالسماع من شيخه، كأن يقول حدثنا أو أخبرنا أو سمعته يقول ونحو هذا من الألفاظ التي تدل على سماعه من شيخه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "الوليد بن مسلم الحافظ أبو العباس، عالم أهل الشام"، قال ابن المديني : "ما رأيت من الشاميين مثله" ... قلت: "كان مدلسا فيتقى من حديثه ما قال فيه (عن...)" انتهى من " الكاشف " (2/355) .
وهو في روايته هذه قال "حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه" فتقبل روايته، كما ثبت من رواية الثقة عبد الوهاب ابن نجدة الحوطي عند ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/110) .
لكن الوليد بن مسلم ليس مشهورا بالتدليس فقط، وإنما أيضا بتدليس التسوية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :" الوليد بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية" انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 584) .
وتدليس التسوية هو أن يسقط الراوي شيخ شيخه من الإسناد إذا كان راويا ضعيفا.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :"وأما من روى عن ضعيف فأسقطه من الإسناد بالكلية فهو نوع تدليس"
ومنه ما يسمى التسوية، وهو أن يروي عن شيخ له ثقة، عن رجل ضعيف، عن ثقة، فيسقط الضعيف من الوسط .
وكان الوليد بن مسلم، وسنيد بن داود وغيرهما يفعلون ذلك" انتهى.. من"شرح علل الترمذي" (2/825) .
والمدلس تدليس التسوية لا تقبل روايته حتى يكون هناك تصريح بسماع شيخه من شيخ شيخه ولا يكفي تصريحه بالسماع من شيخه فقط.
قال ابن الملقّن رحمه الله تعالى:"الوليد لا ينفعه تصريحه بالتحديث، فإنه اشتهر بتدليس التسوية، وهو أن لا يدلس شيخ نفسه ولكن شيخ شيخه" انتهى من "المقنع" (1/218).
والوليد بن مسلم في حديثه هذا لم يصرح بالتحديث بين شيخه محمد بن حمزة بن يوسف وشيخ شيخه حمزة بن يوسف .
لكن أهل العلم في نقدهم لهذا الحديث لم يتطرقوا لهذا، ولعل سبب ذلك أن الغالب أن الابن يسمع من أبيه مباشرة، ومن النادر أن يروي الابن عن أبيه بواسطة شخص آخر، والنادر لا حكم له.
- محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام: هذا الراوي صدوق في روايته.
قال الذهبي رحمه الله تعالى :"محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال أبو حاتم : "لا بأس به" انتهى من "الكاشف " (2/166).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :"محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، صدوق" انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 475) .
- حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام : "مجهول الحال."
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذا الحديث وقال عنه : "منكر" قال: "وعلته حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، فإنه ليس بالمعروف، ولذلك بيّض له الذهبي في " الكاشف ".
وقال الحافظ: "مقبول". يعني عند المتابعة، "وإلا فليّن الحديث" (يعني ضعيف الحديث وكلمة لين ألطف من كلمة ضعيف) كما نص عليه في مقدمة "التقريب"."وكأنه لجهالته لم يورده البخاري في "التاريخ" ولا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" انتهى من " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (3/516).
ومعنى "بيض له ..."أنه ذكره في كتابه" الكاشف في معرفة من له رواية من الكتب الستة (2/320) رقم (1244) ولم يذكر فيه توثيقا ولا تضعيفا.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:" وخبر إسلام - زيد بن سعنة - رواه الوليد بن مسلم، عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده عبد الله، قال: لما أراد الله هدى زيد بن سعنة، قال: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلا شيئين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل إلا حلما.
وذكر الحديث بطوله، وهو في الطوالات للطبراني، وآخره: فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وآمن به وبايعه، وشهد معه مشاهد، وتوفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر. "والحديث غريب، من الإفراد " انتهى من "سير أعلام النبلاء" (1/444) .
وقال في تعقبه للحاكم في المستدرك لما قال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وهو من غرر الحديث."
فقال الذهبي: "ما أنكره وأركّه، لا سيما قوله (مقبلا غير مدبر) فإنه لم يكن في غزوة تبوك قتال!" انتهى من"مستدرك الحاكم" (3/605).
فالحاصل، أن هذا الحديث ضعيف لأن مداره على حمزة بن يوسف، وهو مجهول الحال، ولم يتابع عليه. مع ما في متنه من النكارة.
والله أعلم.
