من هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟
أبو بكر الصديق واسمه هو عَبْدُ اللَّهِ بنُ أبي قُحَافةَ عُثْمانَ بنِ عامِرِ بنِ عَمْرِو بنِ كَعْبِ بنِ سَعْدٍ التَّيْمِيُّ القُرَشِيُّ، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وكنيته أبو بكر، وعثمان هو اسم أبي قحافة، ولد أبو بكر بعد عام الفيل (مولد النبي صلى الله عليه وسلم) بسنتين وستة أشهر وقيل بثلاثة سنوات أي سنة 573 للميلاد فهو يصغر النبي قليلا وكان تاجراً جمع الأموال العظيمة التي نفع بها الإسلام حين أنفقها، وهو أول من أسلم من الرجال. وقد وصفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصديق، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال:« اثبت أحداً، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان.» [رواه مسلم].
يظن بعض الناس أن هذا القول : « ما فضلكم أبو بكر بكثير صوم ولا صلاة ولكنه شيء وقر في قلبه.» حديث شريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وينقلونه في كتاباتهم على أنه حديث صحيح، والحقيقة أن هذا ليس بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم ولا من كلام الصحابة -رضي الله عنهم- إنما هو من كلام بعض السلف، فقد نسب ابن رجب في كتابه "اللطائف" القول لبكر المزني وأورده مع تغيير عبارة بقلبه بعبارة بصدره، وينسب القول لأبي بكر بن عياش رحمه الله أيضا في تعظيم أبي بكر وإظهار ورعه وتقواه وحث المسلمين على التأسي به.
والصديق -رضي الله عنه- هو أعلم الصحابة وأفضلهم وأكملهم إيمانًا، فقد أعطاه الله من العلم والفضل والتقوى والخير ما لم يعط غيره، ومن تأمل سيرته وتأمل أعماله وفتاواه عرف ما عنده من العلم والفضل وقوة الإيمان وكماله، فهو أفضل الصحابة وخيرهم وهو إمامهم -رضي الله عنه- وأرضاه بإجماع المسلمين.
تزكية أبي بكر الصديق في القرآن:
َقدْ جاءَت في شَأنِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه آياتٌ وأحاديثُ مُنَوِّهةٌ بفَضلِه. ومِمَّا جاءَ في ذلك مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:
- قَولُ اللهِ تعالى: « إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» [التوبة: 40]. قال ابنُ عَطِيَّةَ: « هَذِه الآيةُ مُنَوِّهةٌ بأبي بَكرٍ حاكِمةٌ بقَدَمِه وسابِقَتِه في الإسلامِ رَضِيَ اللهُ عنه.»
- قال سُبحانَه: « وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى» [الليل:17-21]. قال ابنُ الجوزيِّ: قَولُهُ عَزَّ وجَلَّ: « وَسَيُجَنَّبُهَا» أي: يُبعَدُ عنها، فيُجعَلُ مِنها عَلى جانِبٍ، «الْأَتْقَى» يَعني أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ، في قَولِ جَميعِ المُفَسِّرينَ، «الَّذِي يُؤتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى» أي يَطلُبُ أن يَكونُ عِندَ اللهِ زاكيًا، ولا يَطلُبُ الرِّياءَ ولا السُّمعةَ، «وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى» أي لم يَفعَلْ ذلك مُجازاةً ليَدٍ أُسْدِيَت إليه.
- وقال تعالى: « وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ » [النور: 22] قال الرَّازي: « أجمَعَ المُفَسِّرونَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَولِه: «أُولُو الفَضْلِ» أبو بَكْرٍ، وهَذِه الآيةُ تَدُلُّ عَلى أنَّه رَضِيَ اللهُ عنه كانَ أفضَلَ النَّاسِ بَعدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... قال لِمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: « فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ » [المائِدة: 13] وقال في حَقِّ أبي بَكْرٍ: « وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا » فمِن هَذا الوَجهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ كانَ ثانيَ اثنينِ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ الأخلاقِ حَتَّى في العَفوِ والصَّفحِ... قَولُه: « أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ » فإنَّهُ سُبحانَه ذَكرَهُ بكِنايةِ الجَمعِ عَلى سَبيلِ التَّعظيمِ، وأيضًا فإنَّهُ سُبحانَه عَلَّقَ غُفرانَه لهُ عَلى إقدامِه عَلى العَفْوِ والصَّفحِ، فلَمَّا حَصَلَ الشَّرطُ مِنهُ وجَبَ تَرتيبُ الجُزاءِ عليه، ثُمَّ قَولُه: « يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ » بصيغةِ المُستَقبَلِ وأنَّه غَيرُ مُقَيَّدٍ بشَيءٍ دونَ شَيءٍ؛ فدَلَّتِ الآيةُ عَلى أنَّه سُبحانَه قَد غَفَرَ لهُ في مُستَقبَلِ عُمرِه عَلى الإطلاقِ، فكانَ من هَذا الوَجهِ ثانيَ اثنينِ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه: « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ».
- - تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: « بينما نحن جلوس يومًا في حرِّ الظهيرة، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبدًا، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي، ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على سرير أبي بكر، وقال: أخرِجْ مَن عندك يا أبا بكر، قال: إنما هم أهلُك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: فإن الله قد أذِنَ لي في الهجرة، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبةَ يا رسول الله، قال: الصحبة يا أبا بكر، قالت عائشة: فوالله، ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يومئذٍ يبكي من الفرح.» أخرجه البخاري.
- وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: « قُلتُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا في الغارِ: لو أنَّ أحَدَهم نَظَرَ تَحتَ قَدَمَيه لأبصَرَنا، فقال: ما ظَنُّكَ يا أبا بَكْرٍ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟ » قال العَينيُّ: « فيه مَنقَبةُ أبي بَكرٍ... قَولُه: « مَا ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟» أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالِاثنينِ نَفسَه وأبا بَكرٍ.» اهـ. ولما سارا في طريق الهجرة كان يمشي حينًا أمام النبي صلى الله عليه وسلم وحينًا خلفه، وحينًا عن يمينه، وحينًا عن شماله.
- وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر - رضي الله عنه - قال: « أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك في مالاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « ما أبقيت لأهلك؟» فقلت: « مثله » وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: « يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ » قال: « أبقيت لهم الله ورسوله»، قلت: لا أسابقه إلى شيء أبداً ». قال ابنُ رسلانَ: « قال لهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: « ما أبقَيتَ لِأهلِكَ؟ » هَذا السُّؤالُ ليُظهِرَ فضيلةَ أبي بكر رَضِيَ اللهُ عنه لِلحاضِرينَ ولِغَيرِهِم.»
- روى أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: « أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي.» [رواه الحاكم]
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: « من أنفَقَ زَوجينِ مِن شَيءٍ مِنَ الأشياءِ في سَبيلِ الله دُعِيَ من أبوابِ الجَنَّةِ: يا عَبدَ اللهِ، هَذا خَيرٌ، فمَن كانَ من أهلِ الصَّلاةِ دُعِيَ من بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ من أهلِ الجِهادِ دُعِيَ من بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ من أهلِ الصَّدَقةِ دُعِيَ من بابِ الصَّدَقةِ، ومَن كانَ من أهلِ الصِّيامِ دُعِيَ من بابِ الصِّيامِ وبابِ الرَّيَّانِ. فقال أبو بَكْر : ما عَلى هَذا الَّذي يُدعَى من تِلكَ الأبوابِ من ضَرورةٍ! وقال: هَل يُدعى مِنها كُلِّها أحَدٌ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: نَعَم، وأرجو أن تَكونُ مِنهم ياأبا بكر.»
- و عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: « مَن أصبَحَ مِنكمُ اليَومَ صائِمًا؟ قال أبو بَكْرٍ: أنا، قال: من تَبِعَ مِنكم اليَومَ جِنازةً؟ قال أبو بَكرٍ: أنا. قال: فمَن أطعَمَ مِنكمُ اليَومَ مِسكينًا؟ قال أبو بَكرٍ: أنا. قال: فمَن عادَ مِنكمُ اليَومَ مَريضًا؟ قال أبو بَكْرٍ: أنا، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما اجتَمَعْنَ في امرِئٍ إلَّا دَخلَ الجَنَّةَ.»
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: « بَيْنا راعٍ في غَنَمِه عَدَا عليها الذِّئبُ فأخَذَ مِنهُ شاةً، فطَلَبَهُ الرَّاعي حَتَّى استَنقَذَها مِنهُ، فالتَفَتَ إلَيه الذِّئبُ، فقال له: منَ لها يَومَ السَّبُعِ، يَومَ ليسَ لها راعٍ غَيري؟! فقال النَّاسُ: سُبْحانَ اللَّهِ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإنِّي أؤمِنُ بذلك أنا و أبو بكر وعُمَرُ.» قال ابن حجرٍ: « يَحتَمِلُ أن يَكونُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك لِمَا اطَّلَعَ عليه من غَلَبةِ صِدْقِ إيمانِهِما وقوَّةِ يَقينِهما، وهَذا ألْيَقُ بدُخولِه في مَناقِبِهِما.»
- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: « كُنتُ جالِسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بَكْرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوبِه حَتَّى أبدى عن رُكبَتِه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ» فسلَّم وقال: «إنِّي كانَ بَيني وبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فأسرَعْتُ إلَيه ثُمَّ نَدِمتُ، فسألْتُهُ أن يَغفِرَ لي فأبى عَليَّ، فأقبَلْتُ إلَيكَ.» فقال: «يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بَكرٍ «ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ عُمرَ نَدِمَ فأتى مَنزِلَ أبي بَكْرٍ فسألَ: «أثمَّ أبو بَكْرٍ؟» فقالوا: «لا» فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ عليه فجَعلَ وَجْهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أشفَقَ أبو بَكْرٍ فجثَا عَلى رُكبَتيه، فقال: «يا رَسولَ اللهِ، واللَّهِ أنا كُنتُ أظلَمَ.» مَرَّتينِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ بَعَثني إلَيكم، فقُلتُم: «كذَبْتَ» وقال أبو بَكْرٍ: «صَدَقَ» وواساني بنَفسِه ومالِه، فهَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟» مَرَّتينِ. فما أوذِيَ بَعدَها وفي رِوايةٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي، هَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟ إنِّي قُلتُ: «يا أيُّها النَّاسُ إنِّي رَسولُ اللهُ إلَيكم جَميعًا» فقُلتُم: «كذَبْتَ، وقال أبو بَكْرٍ: «صَدَقْتَ.»
أبو بكر رضي الله عنه أول من دعا إلى الله من الصحابة فأسلم على يديه أكابر الصحابة، ومنهم: عثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين. ولأبي بكر من الفضائل والخصائص التي ميّزه الله بها عن غيره كثير، منها: أنه أزهد الصحابة، وأشجع الناس بعد رسول الله صلى عليه وسلم، وأنه أحب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَسُؤهُ قط، وهو أفضل الأمة بعد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وهو أول من يدخل الجنة كما سبق في الحديث.
يقال أن أبا بكر لم يكن يشرب الخمر في الجاهلية، فقد حرمها على نفسه قبل الإسلام، وكان من أعف الناس في الجاهلية، قالت السيدة عائشة: «حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه، فقال أبو بكر: إن هذا لا يدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها». وقد سأل أحدُ الناس أبا بكر: «هل شربت الخمر في الجاهلية؟»، فقال: «أعوذ بالله»، فقيل: «ولمَ؟» قال: «كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعاً لعرضه ومروءته». كما رُوي أن أبا بكر لم يسجد لصنم قط، فقد قال أبو بكر في مجمع من الصحابة: «ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي، فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: «هذه آلهتُك الشمُّ العوالي»، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: «إني جائع فأطعمني» فلم يجبني، فقلت: «إني عار فاكسني» فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخر لوجهه»
وقد قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: « إن من أمنِّ الناس عليَّ في صحبته وذات يده أبو بكر » [رواه الترمذي]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر كما يقضي في مال نفسه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر » [رواه أحمد]. فبكى أبو بكر وقال: « وهل أنا ومالي إلا لك يارسول الله ». وإنفاق أبي بكر هذا كان لإقامة الدين والقيام بالدعوة فقد أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة وغيرهما كثير.
عن عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعثَهُ عَلى جَيشِ ذاتِ السَّلاسِلِ، فأتيتُهُ فقُلتُ:« أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيكَ؟» قال: «عائِشةُ»، فقُلتُ: «مِنَ الرِّجالِ؟» فقال: «أبوها». قُلتُ: ثُمَّ «مَن؟» قال: «ثُمَّ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ»، فعَدَّ رِجالًا»
وهو أول مَن أسلم من الرجال، وهو أول مَن يدخل الجنة بعد الأنبياء، ويُدعَى من أبواب الجنة كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه دائمًا، ويقول: «جئتُ أنا وأبو بكر وعمر»، ويقول: «لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي» رواه البخاري.
كما كتب الله لأبي بكر - رضي الله عنه - أن يكون مع الرسول ثاني اثنين في الإسلام، فقد كتب له أن يكون ثاني اثنين في غار ثور، وأن يكون ثاني اثنين في العريش الذي نُصب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر.
ولعلم الصحابة بمكانه وقربه من الرسول وفضله وسابقة إسلامه، فقد بايعوه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالخلافة، وقد كان أمر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ذا حزن وفزع وصدمة عنيفة، وقف لها أبو بكر ليعلن للناس في إيمان عميق قائلاً: « أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت»، ثم تلا على الناس قول الله عز وجل لرسوله «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ» [الزمر:30].
وتمت البيعة بإجماع من المهاجرين والأنصار. وقد كانت سياسته العامة والخاصة خيرٌ للإسلام والمسلمين و الناس كافة، أوجزها في كلمة قالها خطيباً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أخذ البيعة قال: «أيها الناس، إني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل اللّه إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
وهي خطبة شاملة جامعة أتبعها بالعمل لخدمة هذا الدين ونشره، فأنفذ جيش أسامة بن زيد، وبلغ من تكريم أبي بكر لهذا الجيش الذي جهزه الرسول صلى الله عليه وسلم أن سار في توديعه ماشياً على قدميه، وأسامة راكب، وقد أوصى الجيش بوصية عظيمة فيها تعاليم الإسلام ومبادئه السمحة.
ثم قام أبو بكر بعمل عظيم لا ينهض له إلا الرجال الموفقون، فقد وقف للردة التي وقعت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم موقفاً لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: «والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها». ولما يسر الله عز وجل القضاء على المرتدين انطلقت عينا أبي بكر خارج الجزيرة العربية، رغبة في نشر هذا الدين وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فوجَّه الجيوش إلى الجهاد في أرض فارس والروم، وجعل على قائد جبهة الفرس خالد بن الوليد رضي الله عنه، وعلى قائد جبهة الروم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه. وكانت أولى المواقع العظيمة موقعة اليرموك التي فتح الله فيها للمسلمين أرض الروم وما وراءها.
ومن أجلِّ أعمال أبي بكر رضي الله عنه جمع القرآن الكريم، وقد عهد بذلك إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقام بالأمر حتى كتب المصحف في صحف جُمعت كلها ووضعت عند أبي بكر، حتى انتقلت من بعده إلى عمر، ثم إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
مرض أبو بكر رضي الله عنه وتوفي في جمادى الآخر سنة 13هـ ودفن بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وعهد للخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فاللهم ارض عن أبي بكر، واجزه الجزاء الأوفى، جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.