


أما بعد أعزائي الأعضاء ومرتادي منتدانا وزوارنا الأكارم :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ (هو عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان بن زيد الأوسي الأنصاري الظفري تابعي سكن المدينة المنورة)، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ … قَالُوا: إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ، مَعَ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَهُدَاهُ لَمّا كُنّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا: إنّهُ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَكُنّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمّا بَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللهِ تَعَالَى، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ الْبَقَرَةِ {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَةُ: 89] .
وبعض أحبار اليهود أمنوا بالنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما تيقنوا من صفاته الخلقية والأخلاقية بكتبهم ... وقصة اليوم تتعلق بأحد أحبارهم يدعى الحصين بن سلام الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أسلم عبد الله بن سلام ؟ ... إليكم قصة إسلامه يرويها بنفسه:
عبدُ الله بن سلامٍ رَضي اللهُ عنه وكنيته أبو يوسف، وقيل أبو الحارث من يهود بني قينقاع من ذُرِّيـة النبى يوسف عليه السلام من بني إسرائيل. كان حَبْرا من علماء يهود بني قَيْنُقَاع، ثم أسلم مع قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قال عنه الذهبي في السير: " الإمام الحَبْر، المشهود له بالجنة، حليف الأنصار، من خواصِّ أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ". وقال عنه النووي: " وهو من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وكان اسمه في الجاهلية حصينا، فسماه رسول الله: عبد الله، أسلم أول قدوم رسول الله المدينة.
بعد وصول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة مهاجرا من مكة، كان الأنصار يتطلعون إلى استضافته، وكلما مر على أحدهم دعاه للنزول عنده، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - في مكان المسجد النبوي الذي هو فيه الآن .. ثم أخذت الوفود تتوافد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب، وقد تنادى الناس فيما بينهم: قدْ قدِم رسول الله، قد قدم رسول الله.
جاء عبد الله بن سلام مع الناس ليرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أول ما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة انجفل ( أسرع ) الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلمّا تأملت وجهه، واستثبته علمت أنّ وجهه ليس بوجه كذاب!، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: أيها الناس! أفشوا السّلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي .
قال السندي: " ( عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) لما لاح عليه من سواطع أنوار النبوة، وإذا كان أهل الصلاح والصلاة في الليل يُعْرَفون بوجوههم، فكيف هو وهو سيدهم ـ صلوات الله وسلامه عليه".
قصة إسلام عبد الله بن سلام يرويها بنفسه:
قال: لمَّا سَمِعتُ برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَرَفتُ صِفَتَه واسمَه وزَمانَه الذي كنا نتوقَّعُ له، فكنتُ مُسِرًّا لذلك، صامِتًا عليه، حتى قَدِمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، فلمَّا نزل بقُباءٍ، في بني عَمرِو بنِ عَوفٍ، أقبل رجلٌ حتى أخبَرَ بقُدومِه، وأنا في رأسِ نَخلةٍ لي أعمَلُ فيها، وعمَّتي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ تحتي جالِسةٌ، فلما سمعتُ الخبرَ بقُدومِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَبَّرتُ، فقالت لي عَمَّتي حين سَمِعَت تكبيري: خيَّبَك اللهُ! واللهِ لو كُنتَ سَمِعتَ بموسى بنِ عِمرانَ قادِمًا ما زِدتَ! قال: فقلتُ لها: أيْ عمَّةُ، هو واللهِ أخو موسى بنِ عِمرانَ، وعلى دينِه، بُعِث بما بُعِث به. قال: فقالت: أيِ ابنَ أخي، أهوَ النبيُّ الذي كُنَّا نُخبَرُ أنه يُبعَثُ مع نَفَسِ السَّاعةِ؟ قال: فقلتُ لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجتُ إلى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأسلَمتُ، ثم رَجَعتُ إلى أهلِ بيتي، فأمرتُهم فأسلموا.قال: وكَتمتُ إسلامي من يهودَ، ثم جِئتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ له: يا رسولَ الله، إنَّ يهودَ قومٌ بُهتٌ، وإنِّي أُحِبُّ أن تُدخِلَني في بعضِ بُيوتِك، وتُغيِّبَني عنهم، ثم تَسألَهم عني، حتى يُخبِروك كيف أنا فيهم، قَبْلَ أن يعلَموا بإسلامي؛ فإنَّهم إنْ عَلِموا به بَهَتوني وعابوني. قال: فأدخَلَني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ بُيوتِه، ودَخَلوا عليه، فكلَّموه وساءَلوه، ثم قال لهم: "أيُّ رجلٍ عبدُ الله بنُ سَلامٍ فيكم؟" قالوا: سيِّدُنا وابنُ سيِّدِنا، وحَبرُنا وعالِمُنا. قال: فلمَّا فَرَغوا من قولِهم خرجتُ عليهم، فقلتُ لهم: يا مَعشرَ يهودَ، اتَّقوا اللهَ واقبَلوا ما جاءكم به، فواللهِ إنَّكم لَتعلمون إنَّه لَرسولُ الله، تَجِدونَه مَكتوبًا عِندكُم في التَّوراةِ باسمِهِ وصِفَتِه، فإنِّي أشهَدُ أنَّه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأُومِن به وأُصدِّقُه وأعرِفُه. فقالوا: كَذَبْتَ. ثم وَقَعوا بي، قال: فقلتُ لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَمْ أُخبِرْك يا رسولَ الله أنهم قومٌ بُهتٌ، أهلُ غدرٍ وكذبٍ وفُجورٍ! قال: فأظهَرتُ إسلامي وإسلامَ أهلِ بيتي، وأسلَمَت عمَّتِي خالِدةُ بنتُ الحارِثِ، فحَسُن إسلامُها.
امتحان عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم
وفي «صحيح البخاري» عن أنس رضي الله عنه قال: أن عبد الله بن سلام بلغه مَقْدِم النّبي صلى الله عليه وسلم المدينة،َ فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه وإلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفًا»، قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فز يادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد»، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت …فذكر نحو ما تقدم.
نكران اليهود لمقام عبد الله فيهم
وعن الضحاك في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] قال: جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن اليهود أعظم قوم عَضِيهةَ (يعني القذفُ بالباطل والكذب والبهتان) فسلهم عني، وخذ عليهم ميثاقاً أني إن اتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك، واخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك.
فأرسل إلى اليهود فقال: ما تعلمون عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وأعلمنا بكتاب الله، سيدنا وعالمنا وأفضلنا، قال: أرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل علي تؤمنون بي؟ قالوا: نعم، فدعاه فخرج عليهم عبد الله بن سلام، فقال: يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله تجدوني مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي، وأن يتبعني من أدركني منكم، قال: بلى، قالوا: ما نعلم أنك رسول الله، وكفروا به وهم يعلمون أنه رسول الله، وأن ما قال حق، فأنزل الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ} – يعني الكتاب- والرسول {وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ} – يعني عبد الله بن سلام- {فَآمَنَ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] ففي ذلك نزلت هذه الآية.
فضله
عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في ابن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113، 114].وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10]
وعن مصعب بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل من هذا الفَجِّ رجلٌ من أهل الجنة"، فجاء ابن سلام.
والآية {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، قال مجاهد: هو عبد الله بن سلام.
وهو ممن يؤتون أجورهم مرتين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدَّى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أَمَةٌ يطؤها، فأدَّبـها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران".
بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام بالجنة، فعن معاذ بن جبل قال: "التمِسوا العلم عند أربعة، عند عويمر أبي الدّرداءِ، وعند سلمان الفارسيِّ، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلامٍ الذي كانَ يهوديًّا فأسلم، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إنه عاشِرُ عشرةٍ في الجنة" رواه الترمذي.
وأخرج البخاري ومسلم بسنده عن قيس بن عباد، قال: "كنت جالسًا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج، وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد، قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك: رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة، ذكر من سعتها وخضرتها وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارقَ، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل له: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت، وذاك الرجل عبدالله بن سلام".
وقد روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابناه: يوسف ومحمد، وأبو هريرة وأبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وعطاء بن يسار وغيرهم، وشهد مع عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس، والجابية وقد عده بعضهم من البدريين، وأما ابن سعد: فذكره في الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق وما بعدها.
واتفق المؤرخون على أن ابن سلام رضي الله عنه توفي سنة ثلاث وأربعين وذكرت ذلك «دائرة المعارف الإسلامية» أنه كان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي ﷺ عبد الله لما أسلم وأنه توفي سنة 43هـ (663 - 664م).
انتهى بحمد الله ... هذا والله أدرى وأعلم
