قصيدة همامُ بن غالب الدارمي التميمي المعروف بالفرزدق في مدح الإمامَ «السجاد» أي زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (وهو الإمام الرابع عند الشيعة الإثنا عشرية) وذلك أثناء قيام هشام بن عبد الملك بالحجّ وسعيه جاهداً للوصول إلى الحجر الأسود ولكنّه لم يستطع الوصول له لكثرة الحجّاج آنذاك، فجلس على كرسي مع جماعة من كبار أهل الشام لينظر إلى الحجّاج، وفي هذه الأثناء جاء الإمام زين العابدين علي بن الحسين ليقوم بالحجّ فطاف البيت الحرام ولمّا انتهى إلى الحجر ابتعد الحجّاج عن طريقه حتى يتمكّن من الوصول للحجر، فقال رجل من كبار أهل الشام لهشام بن عبد الملك: من هذا؟ فقال هشام: لا أعرفه وذلك خوفاً من أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق جالساً بينهم فقال: أنا أعرفه ثمّ قال قصيدة التي سنتطرق إليها اليوم.
روي القصيدة كثير من علماء المسلمين سنة وشيعة على السواء فمن السنة جاءت في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الإصفهاني، و وردت في «تاريخ دمشق» لابن عساكر وغيرهم، ومن الشيعة ذكرها محمد باقر المجلسي في «بحار الأنوار»، والمفيد في كتابه «الإرشاد»، وابن شهرآشوب المازندراني في «مناقب آل أبي طالب» الذي روي عن «حلية الأولياء» لأبي نعيم الأصفهاني و«حلية الأبرار في أحوال محمد و آله الأطهار» للسيد هاشم البحراني وغيرهم، ونصها:
يَا سَـائِلِي: أَيْنَ حَـلَّ الجُـودُ وَالكَـرَمُ **** عِنْـدِي بَـيَـانٌ إذَا طُـلاَّبُـهُ قَـدِمُـوا
هَذَا الذي تَعْـرِفُ البَطْـحَاءُ وَطْـأَتَـهُ **** وَالبَـيْـتُ يَعْـرِفُـهُ وَالحِـلُّ وَالحَـرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَهِ كُلِّهِمُ ********* هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ العَلَمُ
هَذَا الذي أحْمَدُ المُخْتَارُ وَالِدُهُ ******** صَلَّى عَلَیهِ إلَهِي مَا جَرَى القَلَمُ
لَوْ يَعْلَمُ الرُّكْنُ مَنْ قَدْ جَاءَ يَلْثِمُهُ ******** لَخَرَّ يَلْثِمُ مِنْهُ مَا وَطَى القَدَمُ
هَذَا عليٌ رَسُولُ اللَهِ وَالِدُهُ ********** أَمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الاُمَمُ
هَذَا الَّذِي عَمُّهُ الطَّيَّارُ جَعْفَرٌ ******** وَالمَقْتُولُ حَمْزَةُ لَيْثٌ حُبُّهُ قَسَمُ
هَذَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسْوَانِ فَاطِمَةٍ *** وَابْنُ الوَصِيِّ الَّذِي في سَيْفِهِ نِقَمُ
إذَا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ************ إلَی مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ راحته *********** رُكْنُ الحَطِيمِ إذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
وَلَيْسَ قُولُكَ: مَنْ هَذَا؟ بِضَائِرِهِ ****** العُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أنْكَرْتَ وَالعَجَمُ
يُنْمَى إلَی ذَرْوَةِ العِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ ***** عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلاَمِ وَالعَجَمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ********** فَمَا يُكَلَّمُ إلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ
يَنْجَابُ نُورُ الدُّجَى عَنْ نُورِ غُرِّتِهِ *** كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إشْرَاقِهَا الظُّلَمُ
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ ************* مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مَا قَالَ: لاَ، قَطُّ إلاَّ فِي تَشَهُّدِهِ ********* لَوْلاَ التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاَؤهُ نَعَمُ
مُشتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَهِ نَبْعَتُهُ ********* طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالخِيمُ وَالشِّيَمُ
حَمَّالُ أثْقَالِ أَقْوَامٍ إذَا فُدِحُوا *********** حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
إنْ قَالَ قَالَ بمِا يَهْوَى جَمِيعُهُمُ *********** وَإنْ تَكَلَّمَ يَوْماً زَانَهُ الكَلِمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ ************ بِجَدِّهِ أنبِيَاءُ اللَهِ قَدْ خُتِمُوا
اللهُ فَضَّلَهُ قِدْماً وَشَرَّفَهُ ************** جَرَى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ القَلَمُ
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الآنْبِيَاءِ لَهُ ************ وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الاُمَمُ
عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإحْسَانِ وَانْقَشَعَتْ ******** عَنْهَا العِمَأيَةُ وَالإمْلاَقُ وَالظُّلَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا ************ يُسْتَوْكَفَانِ وَلاَ يَعْرُوهُمَا عَدَمُ
سَهْلُ الخَلِيقَةِ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ ********** يَزِينُهُ خَصْلَتَانِ: الحِلْمُ وَالكَرَمُ
لاَ يُخْلِفُ الوَعْدَ مَيْمُوناً نَقِيبَتُهُ ************ رَحْبُ الفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يُعْتَرَمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ ********* كُفْرٌ وَقُرْبُهُمُ مَنْجىً وَمُعْتَصَمُ
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالبَلْوَى بِحُبِّهِمُ ********* وَيُسْتَزَادُ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَهِ ذِكْرُهُمْ ********* فِي كُلِّ فَرْضٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الكَلِمُ
إنْ عُدَّ أهْلُ التُّقَى كَانُوا أئمَّتَهُمْ * أوْ قِيلَ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الارْضِ قِيلَ: هُمُ
لاَ يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَأيَتِهِمْ *********** وَلاَ يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإنْ كَرُمُوا
هُمُ الغُيُوثُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْ **** وَالاُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالبَأْسُ مُحْتَدِمُ
يَأبَى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ ******* خِيمٌ كَرِيمٌ وَأيْدٍ بِالنَّدَى هُضُمُ
لاَ يَقْبِضُ العُسْرُ بَسْطاً مِنْ أكُفِّهِمُ ***** سِيَّانِ ذَلِكَ إنْ أثْرَوْا وَإنْ عَدِمُوا
أيٌّ القَبَائِلِ لَيْسَتْ فِي رَقَابِهِمُ *************** لَأَوَّلِيَّةِ هَذا أَو لَهُ نِعَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَهَ يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ ذَا ******* فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الاُمَمُ
بُيُوتُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ يُسْتَضَاءُ بِهَا ** فِي النَّائِبَاتِ وَعِنْدَ الحُكْمِ إنْ حَكَمُوا
فَجَدُّهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أُرُومَتِهَا ************** مُحَمَّدٌ وَعليّ بَعْدَهُ عَلَمُ
بَدرٌ له شَاهِدٌ وَالشِّعْبُ مِنْ أُحُدٍ ***** والخَنْدَقَانِ وَيَومُ الفَتْحِ قَدْ عَلِمُوا
وَخَيْبَرٌ وَحُنَيْنٌ يَشْهَدَانِ لَهُ ************* وَفِي قُرَيْضَةَ يَوْمٌ صَيْلَمٌ قَتَمُ
مَوَاطِنٌ قَدْ عَلَتْ فِي كُلِّ نائِبَةٍ *** علی الصَّحَابَةِ لَمْ أَكْتُمْ كَمَا كَتَمُوا
فغضب هشام بعد سماعه هذا المديح ومنع جائزته وقال : «ألا قلت فينا مثلها؟» قال : «هات جدا كجدّه وأبا كأبيه وأمّا كأمه حتى أقول فيكم مثلها» فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة فبلغ ذلك علي بن الحسين فبعث إليه باثني عشر ألف درهم وقال: «اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به» فردها وقال: «يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لارزأ عليه شيئا» فردها الإمامُ إليه وقال: «بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك، نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما أعطينا» (في رواية أخرى «إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده») فقبلها.
فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله :
أَيَحْبِسُنِي (1) بَينَ المَدينَةِ وَالَّتي **** إِلَيها قُلوبُ الناسِ يَهوي مُنيبُها
يُقَلِّبُ عَيناً لَم تَكُن لِخَليفَةٍ *************** مُشَوَّهَةً حَولاءَ بادٍ عُيوبُها
(1) وردت أيضا: يُرَدِّدُني
ملاحظات هامة جدا حول نسبة القصيدة وفيمن قيلت :
لسائل أن يسأل: لمن إذا هذه القصيدة التي نالت هذه الشهرة؟ ومن قائلها الحقيقي؟ والراجح ـ والله أعلم ـ أن القصيدة مركبة من أكثر من نص فبعضها للحزين الكناني الذي خرّج بعض أبياته أبو تمام في «الحماسة» وأورد أبياته أبو الفرج في «الأغاني» ووصفها بالمتناسقة، والجزء الآخر بعض من قصيدة داود بن سلم في مدح قثم بن العباس ويترجح الظن أن أحد الوضاعين ركب القصة ودمج بين هذه الأبيات التي جاءت على وزن وروي واحد وأضاف عليها من عنده أبياتا ونسبها للفرزدق، وأن ذلك كان في قريبا من مطلع القرن الرابع.
إذا أتيتنا إلى من نسبها للفرزدق نجد خلافا آخر حول من قيلت فيه، فالمشهور أنها قيلت في زين العابدين علي بن الحسين بن علي المتوفى سنة 95هـ، وفي الطبراني 3/101 أن الفرزدق قالها في الحسين بن علي رضي الله عنه وكذلك في «الحلية» لأبي نعيم 3/139.
وذكر الفاكهي في أخبار مكة 2/179 أنها للفرزدق يمدح علىّ بن عبيد اللّه بن جعفر ثم قال :«وقيل إنها في محمد بن علي بن الحسين» ثم ساق سندا آخر أنها في من قول بعض أهل المدينة في قثم بن العباس.
القصيدة وردت في مصادر الأدب المعتمدة بنسب مختلفة حتى صار من الصعب الإحاطة بها، ومن أسباب هذا الاختلاف الشديد أنها لا تروى كاملة بل بعض أبيات منها، وفي كل موضع تنسب لشاعر، وأشهر من نُسبت إليه بعض أبياتها:
1) الشاعر الحزين الكناني: وقد نسبها إليه أبو تمام في ديوان الحماسة 2/284 ، وابن رشيق في العمدة 156، والأصفهاني صاحب الأغاني فكان مما قاله عن بعض هذه الأبيات: ( والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد الملك ، وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات ، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة تنبئ عن نفسها ) الأغاني 15/318، مع أنه نسب بعضها للفرزدق أيضا ولغيره كالتالي:
2) كثير بن كثير السهمي: نسبها إليه دعبل كما في المؤتلف 169.
3) داوود بن سلم: كما في العمدة 156. وأمالي المرتضى 1/49.
4) الفرزدق: كما في الأغاني 10/378، والعمدة 165، المرتضى في «الأمالي» مع الشك فيها بقوله :«للفرزدق أو ممن تُنسب له هذه الأبيات»، 1/48. زهر الآداب 1/71.
5) اللعين المنقري العمدة 156.
وأمام هذا التضارب يقول ابن عبد البر كما في بهجة المجالس 1/112: « وقول من قال إن هذا الشّعر قيل في علىّ بن عبيد اللّه بن جعفر، أو في محمد بن علي بن حسين أصح عندي من قول من قال إنه في علىّ بن حسين، لأن على بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وهشام بن عبد الملك إنما ولى الخلافة سنة خمس ومائة، وعاش خليفةً عشرين سنة، وجائز أن يكون الشعر للحر بن عبد اللّه في محمد بن علي بن حسين، وممكن أن يكون للفرزدق في محمد ابن علي بن حسين بن أبي جعفر - وإن كان له في أبيه علي بن حسين - فلم يكن هشام يومئذ خليفةً كما قال أبو علي في روايته، وأما قول الزبير إنه قيل في قثم ابن عباس، فليس بشئ، وإنما ذاك شعر قيل في قثم على قافية هذا الشعر وعروضه ليس هو هذا» .
وقد وهم بعضهم حين علم أن البيهقي روى هذه القصة ظانا منه أنه الإمام البيهقي صاحب السنن فتعجل في الحكم !
قلت: البيهقي الذي ذكرها هو بيهقي آخر ذكرها في كتابه المعروف: « المحاسن والمساوئ» 103 ، وبطريقة مختلفة، وفيها أن الخليفة هو عبدالملك بن مروان وأن عبدالله بن جعفر هو من كافأ الفرزدق !!
وقد تعقب ابن كثير في البداية والنهاية 8/208 الطبراني في ذلك وكان مما قاله :« هكذا أوردها الطبرانى فى ترجمة الحسين فى معجمه الكبير، وهو غريب فان المشهور أنها من قيل الفرزدق فى على بن الحسين لا فى أبيه، وهو أشبه فإن الفرزدق لم ير الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسين ذاهب إلى العراق، فسأل الحسين الفرزدق عن الناس فذكر له ما تقدم، ثم أن الحسين قتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت !! والله أعلم».
هذه القصة والقصيدة المُلفقة استغلها الشيعة في نسبة الفرزدق السُني للتشيع !!
ومن أوائل من فعل ذلك : الشريف المرتضى في «أماليه» (1/45) حيث قال: «كان الفرزدق شيعياًّ مائلاً إلى بني هاشم»، وعنه - فيما يبدو - تناقلها الشيعة، ومَن اغتر بهم وبكذبهم!!
مع أن مدائح الفرزدق لبني أمية لا تخفى على عاقل! حتى كتب الأستاذ محمد الخباز بحثًا منشورًا في مجلة الواحة العدد (59) عام 2010 عن أموية الفرزدق!
والصحيح أن الفرزدق كان شاعرًا سُنيًا، يتكسب بشعره كغيره من الشعراء، مع عصبية لقومه «بني تميم»، وحتى لو ثبتت قصيدته السابقة في مدح الإمامَ «السجاد» زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهي لا تكفي للدلالة على شيعيته! لأن أهل السُنة يُحبون آل البيت، الحب الشرعي ويبجلونهم لأنه صلى الله عليه وسلم أوصاهم بذلك وتوقيرا لمقامهم ونسبهم.
والشيعة الخُبثاء عادتهم التكثر بأن ينسبوا المشاهير لنِحلتهم الفاسدة لأدنى سبب ولتشويه تاريخهم!! ومَن راجع كتب رجالهم رأى العجب العُجاب، والفرزدق ليس بأولهم.